

Abdellah LALAOUI
كوتش أسريالغيرة والثقة في العلاقات الأسرية: المعركة الكبرى بين القلب والعقل
Posted on 4 مايو، 2025

الحديث عن الغيرة والثقة باعتبارهما قوتان متناقضتان، تتداخلان بشكل معقد داخل العلاقات الأسرية… حديث ذو أهمية قصوى مادامت العلاقات الاجتماعية وخصوصا منها الزواج أسمى أشكال الترابط الاجتماعي والعاطفي، إذ يمكن أن تكون الغيرة محركا للعاطفة ودافعا للحفاظ على العلاقة، لكنها في نفس الوقت قد تصبح سلاحا ذا حدين قد يهدد استقرار العلاقة الزوجية. من ناحية أخرى، تعد الثقة ركيزة أساسية في أي علاقة صحية، فهي تنبني على الاحترام المتبادل، والإخلاص، والشفافية.
في جلسة استشارية مع زوجين في منتصف الثلاثينات، تحدثت الزوجة عن شعورها الدائم بالغيرة من علاقات زوجها الاجتماعية مع زملائه في العمل. في كل مرة كان يذكر فيها أحد هؤلاء الزملاء، كانت تنتابها مشاعر من الشك والقلق، مما يسبب لها توترا عاطفيا. من جهة أخرى، كان الزوج يرى أن مشاعر الغيرة من زوجته تزعجه، لاعتقاده أنه لا يوجد مبرر لهذه الغيرة، وأنه لا يفعل شيئًا يهدد العلاقة. وقد تبين من خلال الجلسات أن العلاقة بينهما قد سادت فيها مشاعر الخوف وعدم الثقة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن للغيرة أن تتناغم مع الثقة؟ وهل يمكن للغيرة أن تكون دافعا لتقوية العلاقات الزوجية؟
هل يمكن أن تحسن الغيرة من العلاقة الزوجية إذا تمت معالجتها بطريقة صحيحة؟ أم أنها مجرد شعور مدمر يتطلب معالجة جذرية؟
في محاولتنا لتعريف الغيرة بأنها شعور عاطفي معقد ومؤلم، يعززه الخوف من فقدان شيء أو شخص نعتبره جزءا من حياتنا أو مصدرا لحبنا. لا بد من أن نعرج على وجهة نظر علم النفس حيث يرى بأن الغير تتألف من عدة عناصر نفسية كالتنافس، والشك، والقلق على الذات ويعتبر الغيرة أحد أكثر العواطف الإنسانية عمقا وتعقيدا، وقد ارتبطت بمشاعر الحسد والقلق، وتُعبر عن تهديد يواجهه الفرد على مستوى العلاقة.
بينما تعرف الثقة بأنها الأساس الذي يبنى عليه أي نوع من العلاقات الإنسانية، خاصة في العلاقات الزوجية. الثقة لا تعني فقط غياب الخيانة أو الكذب، بل تعني أن الطرفين يؤمنان ببعضهما البعض، ويمكنهما التنبؤ بردود فعل الآخر، والشعور بالأمان. الثقة تبنى عبر تجارب مشتركة تثبت أن العلاقة صادقة ومستقرة.
في العلاقات الزوجية، قد تكون الغيرة محفزا للشعور بالحاجة إلى الحفاظ على العلاقة، لكن إذا لم تعالج بشكل سليم عن طريق خلق الثقة ، فقد تتحول إلى مصدر للخلافات والاختلالات العاطفية. غالبا ما يكون مصدر الغيرة هو قلة الثقة أو التجارب السابقة التي تركت بصمة سلبية على العلاقة.
ولعله من نافلة القول بأنه من أهم النظريات الحديثة التي تناولت موضوعنا النظريتان التاليتين :
نظرية الربط العاطفي (Attachment Theory): تشير هذه النظرية إلى أن أساليب الارتباط في الطفولة تؤثر بشكل كبير في كيفية تشكيل العلاقات العاطفية في مرحلة البلوغ. إذا كان الطفل قد نشأ في بيئة مستقرة عاطفيا، فإنه سيكون أكثر قدرة على بناء الثقة والارتباط العاطفي بشكل صحي. أما إذا كانت هذه البيئة غير مستقرة، فإن الفرد قد يظهر ميلاً أكبر لتطوير مشاعر الغيرة في علاقاته المستقبلية.
نظرية الجشع العاطفي (Emotional Contagion Theory): تفترض هذه النظرية أن المشاعر تتنقل بين الأفراد بشكل غير واع، ويمكن أن تؤثر على تفاعلاتهم. على سبيل المثال، إذا شعر أحد الزوجين بالغيرة، فإن مشاعره قد تؤثر بشكل غير مباشر على الطرف الآخر، مما يخلق دائرة من الشكوك والقلق، وبالتالي تدفع العلاقة إلى حالة من التوتر.
وجدير بالذكر أن الأبحاث النفسية الحديثة أظهرت أن مشاعر الغيرة، رغم كونها شعورا سلبيا في ظاهرها، قد تكون مفيدة في بعض الحالات إذا تمت معالجتها بشكل صحيح. دراسة أجراها معهد كينغز كوليدج في لندن (2018) أظهرت أن الأفراد الذين يعبرون عن مشاعر الغيرة بطريقة ناضجة وواعية قادرون على تعزيز الثقة في علاقتهم، بل وأحيانا تحسين التواصل بين الزوجين. كما أكدته مدارس العلاج النفسي ومن بينها :
العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يقوم هذا العلاج على تغيير الأفكار السلبية المرتبطة بمشاعر الغيرة. عندما يتعامل الزوج مع فكرة أنه يجب أن “يثبت ولاءه” طوال الوقت، فإن هذه الأفكار قد تؤدي إلى الغيرة المفرطة. من خلال العلاج المعرفي السلوكي، يتعلم الفرد أن يتحدى هذه الأفكار ويحل محلها أفكارًا أكثر منطقية وصحية. بتغيير التفكير، يمكن تقليل مشاعر الشك والغيرة.
العلاج السردي: في العلاج السردي، يقوم الزوجان بإعادة سرد قصة علاقتهم من خلال مناظرة مشتركة تتيح لهم أن يلاحظوا كيف تُبنى مشاعر الغيرة والتوتر في علاقاتهم. هذا العلاج يساعد الأزواج على وضع حدود واضحة، ويُعلمهم كيفية التعامل مع مشاعر الغيرة بشكل بناء.
فيما مضى سمعت إحدى قريباتي تقول لزوجها: أنت تقول إنك تحبني، لكن ذهبت إلى العمل، أشعر كأنك تبتعد عني.
أجابها الزوج: أنت تظنين أنني لا أهتم … هل تعلمين كيف يؤثر شعورك بالغيرة علي؟
الزوجة: لا أستطيع التحكم في مشاعري. أنا خائفة من فقدانك.
لا حظت في هذا الحوار كيف أن الزوجة تتأرجح بين مشاعر الغيرة والخوف من فقدان العلاقة، بينما الزوج يواجه حالة من التحدي لفهم مشاعرها. الهدف هنا هو فتح مجال للحوار البناء الذي يساعد على إزالة سوء الفهم.
باعتماد العلاج المعرفي السلوكي (CBT): كعلاج مناسب في هذه الحالة طلبت من قريبتي مايلي
•تحدثي مع شريكك عن مشاعر الغيرة بطريقة هادئة، وتجنب اتهام الآخر أو الهجوم.
•استخدمي نموذج آرون بيك لمساعدتك في تحديد الأفكار السلبية والحد منها.
وبالتالي أصبح من السهل على هذه السيدة الغيورة أن تتعلم كيفية اكتشاف الأنماط السلبية للأفكار والمشاعر، مثل الاعتقاد بأن الشريك دائما ما يغادر أو لا يظهر اهتماما كافيا. كما امتلكت القدرة بأن تتخذ قرارات مدروسة وتقلل من ردود الفعل العاطفية المبالغ فيها وبالتالي قبول مشاعر الغيرة بدلا من محاربتها، الاعتراف بها كجزء من التجربة الإنسانية، ثم التوجه نحو التصرفات التي تدعم العلاقة بدلا من أن تدمرها.
الغيرة قد تكون جزءا من أي علاقة عاطفية، لكنها ليست دائما سلبية. من المهم أن نعلم أن مشاعر الغيرة لا تتعلق بعدم الثقة فقط، بل هي جزء من الوعي الذاتي، وتعكس أحيانا رغبتنا في الحفاظ على ما هو عزيز. عندما نحسن فهم هذه المشاعر ونتعلم كيف نديرها بشكل عقلاني، فإننا نتمكن من تحويلها إلى قوة تدعم علاقتنا بدلا من أن تضعفها.
الغيرة، عندما يتم إدارتها بعناية، يمكن أن تكون دافعا لبناء علاقة أكثر نضجا وقوة. أما الثقة فهي مفتاح لكل علاقة صحية، وتستحق أن تبنى وتصان من خلال الحوار والاحترام المتبادل.
حري بنا أخيرا أن نطرح للنقاش الأسئلة التي أصبحت ملحة من قبيل : كيف يمكن للمجتمع أن يساهم في تغيير التصورات الخاطئة حول الغيرة وكيفية التعامل معها؟ هل يمكن للغيرة أن تكون محفزا لبناء علاقة صحية إذا تم علاجها بشكل صحيح؟
الكوتش : عبدالله العلوي
Responses